الثلاثاء، 28 فبراير 2017

كتاب الثورة



كتاب الثورة محمد القدوسي
صحفي مصري
كتاب الثورة "4"| من الباشا إلى الجنرال
كانت "الشرعية" هي التحدي الأكبر أمام جنرال مصر الأول "محمد علي"؛ إذ لا بد لكل حكم من مستَنَد يجعل الناس يسلمون للحاكم بسلطته عليهم. ولم يكن بوسعه، طبقاً لأحكام الضرورة -و"الضرورة لها أحكام"- أن يبني هذه الشرعية على سند من دين ولا من عرق ولا من لغة، لهذا نجح، مستفيداً من خبراته الشخصية، ومن حدسه، ومن "الطلاق البائن" بين شعب مصر وسلطة حكمها طوال 9 قرون متصلة (منذ الدولة الفاطمية) ومن المساعدات الغربية "الملهمة" التي حصل عليها، في العثور على الصيغة التي أصبحت أساساً، لا لحكمه فحسب؛ بل لحكم العسكر في مصر، منذ ولايته وإلى اليوم. وهي الصيغة التي وصفتُ طبيعتها من قبلُ، وأنها تقوم على 3 أركان:
الركن الأول: الجنرال في القلب، وهو "القوة العسكرية" التي تمثل "عصبة الحكم" والتي يخضع لها الجميع، رَهَباً لا رَغَباً ولا حبّاً (وسنرى في الفصل المقبل كيف صاغ محمد علي صورة الجنرال بشكلها النهائي الباقي حتى اليوم).
الركن الثاني: الأقليات المتساندة حول الجنرال، وهي البديل للشعب المغيَّب قسراً وقصداً، تتساند (لا تندمج ولا تتحد ولا تتآزر) فقط في التفافها حول الجنرال، وعدا ذلك فإنها تظل محتفظة بتناقضاتها البينية الجذرية. وهي تلعب دور الظهير السياسي والاجتماعي للجنرال، واقتصادياً تَقنع بفتاته، وتؤدي ثرواتها دور "صندوق التحوط" الذي يساعده في أزماته الاقتصادية.
والأكثر أهمية في سلوك هذه الأقليات، أنها تعرف حدود الخلاف بينها، وأن استخدام الحد الأقصى من القوة في مثل هذا الخلاف غير وارد إلا بضوء أخضر من الجنرال، الذي يملك حق التحريش بينها حسب مقتضيات مصلحته. كما أنها تعرف أن كلاً منها منفردة لا قيمة لها في مواجهة الشعب، وأنها كلها مجتمعة لا قيمة لها أيضاً إلا بفضل وجود الجنرال في قلبها، ولهذا فإن ممارستها ضد الشعب -حين يجدّ الجد وتجدُ نفسها مهددة من قبله- تبدو أكثر شراسة وقسوة من الجنرال نفسه، الذي تحرص على بقائه حرص المستعد لبذل التضحية.
الركن الثالث: استبعاد الأغلبية، بمعنى استبعاد "المواطن العادي" الذي لا يتحرك بالأوامر ولا يفكر في التآمر. المواطن الذي يحتفظ بدوائر ولائه وانتمائه من دين وعرق ولغة وقبيلة وجهة وعائلة، لا هو ينساها ولا هو يتجاهلها، لكنه قادر على العيش المشترك وراغب فيه بإرادته. المواطن الذي يتصرف في مختلف المواقف في إطار مرجعية الجماعة الوطنية وموقعه منها، وإن اختلف مع مرجعية الدولة وإجراءات الحكومة. وقد رأينا "الجنرال الأول" محمد علي وهو يستبعد الأغلبية بالقضاء على قياداتها الوطنية، وسرقة نصرها في "رشيد".
وسنتابع هنا طرفاً من سيرة محمد علي التي مهدت لصيغته هذه، وشيئاً من التمهيد للأقليات المتساندة، سواء بتقريبها، أو بالضغط على الأغلبية عبر إهانة ثوابتها.
***
كانت مصر ولاية تابعة للسلطان العثماني، وهو أيضاً "خليفة المسلمين"؛ لهذا لم يحاول "محمد علي"، وهو يستقل بحكمها، أن يدّعي الحكم باسم الإسلام؛ لأن هذا الادعاء يجعله مجرد ضابط متمرد على سلطانه. كما لم يحاول ادعاء الحكم باسم العروبة، ولا المصرية، ولا "النسب الشريف"؛ إذ لم يكن يمثل أياً من هذا، والأسوأ أنه لم يكن بوسعه الاعتماد على مساندة "الأتراك" باعتبارهم العرق الذي نهضت به دولة بني عثمان.
إذ إنه لم يكن تركيّاً أيضاً، فهو ألباني وُلد سنة 1769م في مدينة تتبع الآن دولة "اليونان"، وكانت عند مولده محض قرية لا يزيد عدد سكانها على بضعة آلاف تابعة للدولة العثمانية، مبنية على صخرة، جنوب مقدونيا على خليج كونتسا، تشبه الفرس، سماها الإسكندر الأكبر "بوسيفلا" نسبة لحصانه "بوسفلس"، ثم سماها تجار مدينة "البندقية" الإيطالية "لا كافالا"؛ أي الفَرَس، ليحرف الاسم على يد الأتراك إلى "قافالة" ثم "قوالة" أو "قولة" على يد العرب.
وقد توفي أبوه "إبراهيم" بعد 4 سنوات من مولده، فكفله عمه "طوسون" الذي كان يشغل منصباً رفيعاً في "قولة"، وقد أحسن رعايته إلى أن قُتل بأمر الباب العالي! لتترك الحادثة أثرها الغائر في نفس الصبي، وتقيم جداراً -ظل شاهقاً- بينه وبين العثمانيين، حتى وإن كان من تولى كفالته بعد عمه موظف عثماني آخر، وألباني أيضاً، هو "إسماعيل" شوربجي قولة -أي حاكمها- الذي كان صديقاً لأبيه "إبراهيم أغا"، فرباه مع ابنه تربية كانت أفضل ما يمكن أن يتاح لمثله، وإن خالطها بعض ذل السُّخرة، والسخرية أيضاً. وعلى أي حال، فقد أعرب محمد علي عن وفائه لهؤلاء الثلاثة: الأب والعم والشوربجي، بإطلاق أسمائهم على أول ثلاثة من أولاده.
أما الرجل الرابع الذي كان له أكبر الأثر في حياته، فإنه لم يستطع أن يطلق اسمه على أي من أبنائه؛ ببساطة لأنه "مسيو ليون"، التاجر الفرنسي الذي أدار محلاً تجارياً في قولة منذ 1771م، وكان "الصدر الحنون" ل-"محمد علي" بعد وفاة عمه، والذي يقول عنه "جورجي زيدان" إنه: "حالما رأى محمد علي للمرة الأولى، شفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يقدم له كثيراً من حاجياته، ويسعفه بكل ما في وسعه، حتى ألِفه محمد علي كثيراً، وهذا هو سبب لوثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر، واستخدامه أفراداً منهم في مصلحة البلاد".
ولا يبعد "إلياس الأيوبي" عما قاله "جورجي زيدان"؛ إذ يقول إن مسيو ليون "استوقف انتباهه ذكاء الغلام الفطري النادر، وحسن حكمه على الأمور في شؤون قلما يدركها من كان في مثل سنّه؛ فأحبه كثيراً، وأخذ يزوده بالنصائح والإرشادات الثمينة... فكان لحب هذا الفرنساوي الأبوي أثر عميق في قلب محمد علي جعله، منذ ذلك الحين، ميالاً إلى الفرنساويين أكثر منه إلى كل جنسية غربية أخرى".
والأكثر من هذا، أن "محمد علي" وبعد أن "استتبت قدماه في حكم مصر" وبدأ ينفذ مشروعه الأوسع لبناء دولته، بحث -فوراً- عن "مسيو ليون". وعندما عرف أنه غادر "قولة" إلى مسقط رأسه في "مرسيليا"، كتب إليه في عام 1820 يدعوه إلى مصر كي "يقضي فيها زمناً في ضيافته"، كما يقول "جورجي زيدان". ورد "ليون" على الدعوة بالإيجاب، لكنه مات قبل أن يلبيها.
ويذكر "إلياس الأيوبي" أنه مات "في اليوم نفسه الذي كان عينه لسفره"، وأن "محمد علي" لم يكتف بالحزن الشديد الذي أبداه على معلمه، لكنه أرسل إلى شقيقته خطاب تعزية، ومعه "هدية ثمينة فاخرة؛ إظهاراً لاعترافه بجميل أخيها عليه". ورغم أنه لم يأتِ إلى مصر إلا مع الجيش الذي جاء ليحارب الفرنسيين في معركتهم الأخيرة قبل أن يضطروا إلى الجلاء عنها، ظلت ثقة "محمد علي" بهم ثابتة لا تتزعزع حتى في أحرج اللحظات.
ولا شك في أن وفاءه لليون كان له الفضل الأكبر في هذه الثقة، التي بلغت حد أن "محمد علي" لم يزد على "العتاب الرقيق" لفرنسا، عندما بلغه تآمرها مع إنكلترا لتحطيم أسطوله في "نوارين-نافارون"، عتاب يصفه "إلياس الأيوبي" قائلاً: "يروى عن محمد علي أنه لما بلغه النبأ المزعج، نبأ تحطيم عمارته (أي أسطوله) قال بشخوص نظرٍ ملؤه الأسف العميق: إني لا أدري كيف صوب الفرنساويون مدافعهم على أنفسهم، إيماءً إلى ما كان يربط إمارة مصر بفرنسا من روابط الوداد المتين، وإلى أن المصالح الفرنساوية والمصالح المصرية في البحر الأبيض المتوسط كانت واحدة".
في "نافارون" 20 من أكتوبر/تشرين الأول 1827م، تحطم أسطولا المسلمين بالبحر الأبيض: أسطول محمد علي في مصر، والأسطول العثماني بإسطنبول وفي وهران (الجزائر) الذي قاتل مع "الحلفاء الأوروبيين" ضد أسطول "محمد علي"، لينتهي الأمر بتحطم الاثنين معاً: المهزوم "محمد علي" والمنتصر "الأسطول العثماني"، حيث ترك "الحلفاء الأوروبيون" للأسطولين مهمة الصدام معاً، ووقفوا يستمتعون بتحطمهما، وبأن البحر الأبيض، الذي أوشك ذات يوم أن يصبح بحيرة إسلامية، يعود إلى صفته القديمة "بحر الروم".
وكان أثر الهزيمة على "محمد علي" أن اضطر إلى إنهاء مشروع وراثة الدولة العثمانية قبل أن يبدأه، مكتفياً بولاية "جزيرة كريت" التي تنازل عنها له "الباب العالي" وكانت عقوبة أكثر منها جائزة. ولم يقلّ أثر "النصر" سوءاً على أسطول وهران، فبعد 3 سنوات فقط كان عليه أن يستسلم لاحتلال فرنسا، مع الجزائر كلها، وهو الأسطول نفسه الذي كانت ممالك أوروبا والولايات المتحدة تدفع له الإتاوات الحربية، نظير حماية سفنها في البحر الأبيض، ويورد المؤرخ الفرنسي "ليون فالبير" لائحة بأسماء الدول ومدفوعاتها لأسطول وهران، تضم:
- مملكة الصقليتين: 44 ألف قرش سنوياً، منها 24 ألفاً نقداً والباقي في شكل بضائع.
-
مملكة توسكانيا الإيطالية: 23 ألف قرش كلما جددت قنصلها بالجزائر.
-
مملكة سردينيا الإيطالية: مبلغ كبير (غير محدد) كلما جددت قنصلها بالجزائر.
-
البرتغال: 44 ألف قرش سنوياً.
-
إسبانيا: مبالغ مالية كلما جددت قنصلها.
-
النمسا: هدايا دورية مباشرة تقدم للدولة العثمانية.
-
إنكلترا: 600 جنيه إسترليني كلما جددت قنصلها.
-
هولندا: 600 جنيه إسترليني.
-
أميركا: 600 جنيه إسترليني، زادت إلى 62 ألف دولار ذهباً سنوياً.
-
مملكتا هانوفر وبريم الألمانيتان: مبالغ مالية كبيرة كلما جددت إحداهما قنصلها.
-
السويد والدنمارك: مواد حربية قيمتها 400 قرش سنوياً.
وذلك قبل أن تبدأ قوة الأسطول في التداعي بعد استشهاد قائده الفذ "الريس حميدو" في معركة ضد أسطول أميركي-برتغالي مشترك في 16 من يونيو/حزيران 1815م، ثم يتم الإجهاز عليه في نافارون.
ورغم مشاركة فرنسا في تدمير أسطول محمد علي، فإن غضبه لم يجاوز حدود العتاب، الذي يبقى به الود، لدرجة أن فرنسا رشحت "الباشا" على رأس أحد مشروعاتها لاحتلال الجزائر. وفي 10 من أغسطس/آب 1829م، كتب "دور فيتي"، القنصل الفرنسي في مصر، تقريراً إلى رئيس وزراء بلاده "بوليناك" يقترح فيه تكليف محمد علي احتلال الجزائر لمصلحة فرنسا، التي تكتفي بمساعدة حملته العسكرية، وهو المشروع الذي رحب به "محمد علي"، قائلاً للقنصل الفرنسي إنه قادر على إنهاء المشكلة الجزائرية بـ68 ألف رجل و23 سفينة، و100 ألف فرنك فرنسي لنفقات الحملة.
وأرسل "بوليناك" الضابط "هودير" إلى مصر للتفاوض، كما وجه رسالة إلى سفير فرنسا في إسطنبول "جيمينو" لتوصيلها للسلطان العثماني، يقترح عليه فيها "أن يصدر فرماناً يأمر محمد علي بالاستيلاء على الولايات الثلاث (الجزائر وطرابلس وتونس) وإقامة حكم جديد يضمن الهدوء والاستقرار". وهو اقتراح رفضه السلطان العثماني؛ لأن "تأييد هذه الخطة يخالف الدين الإسلامي، ومحمد علي لن يقدر على تنفيذها".
لكن مشروع "الاحتلال بالنيابة" لم يتوقف إلا لأن بعض الوزراء الفرنسيين عدّوه إهانة لشرف بلادهم، وحاولت الحكومة احتواء غضبهم بتقليص مساهمتها المالية في الحملة المقترحة إلى 10 ملايين فرنك، قبل أن يرفض مجلس الوزراء التعاون مع محمد علي في اجتماعه بتاريخ 10 من ديسمبر/كانون الأول 1829م. وفي 30 من يناير/كانون الثاني 1830م وبعد مداولات استمرت 4 ساعات، قرر المجلس أن تغزو فرنسا الجزائر بنفسها، وهو ما وافق عليه الملك شارل العاشر في 7 من فبراير/شباط، مصدراً مرسوماً بتعيين قادة الحملة، التي تحركت من ميناء طولون، لتصل إلى سيدي فرج بالجزائر في 14 من يونيو 1830.
***
لم ينقطع "التعاون" -أو سمِّه ما شئت- بين محمد علي وذريته وفرنسا، رغم صدامهما الدامي في نافارون، الذي أجهض جل أحلامه. ولم تكن العلاقة بينهما مجرد تبادل مصالح في سياق براغماتي، لكنها -من جانب الباشا بكل تأكيد- كانت موقفاً فكرياً وخياراً عقائدياً أيضاً، ومن كلماته التي عبرت عن ذلك: "إننى مدين بجيشي لسليمان بك وببحريتي لمسيو سيريزي؛ بل إننى مدين للفرنسيين بأكثر ما عملته في مصر".
وسليمان بك المشار إليه هو المعروف بسليمان باشا الفرنساوي، الذي أُطلق اسمه على أحد شوارع القاهرة، وهو ضابط فرنسى قاتَل مع نابليون في معركة "الطرف الأغر" ثم جاء إلى مصر، متحولاً إلى الإسلام، وتولى منذ عام 1820 تكوين جيش محمد علي النظامي. كان ينادى بـ"الكولونيل سيف"، وهو أيضاً الجد الأكبر للملكة "نازلي" والدة الملك "فاروق" آخر ملوك مصر من الأسرة العلوية، والتي ماتت في عام 1978 بعد أن اعتنقت ديانة "الروم الكاثوليك" ودُفنت في مقبرة "الصليب المقدس" بالولايات المتحدة الأميركية، فكأنها -بحياتها ومماتها- ترسم الخط الواصل بين بداية التأثر، ونهاية التأثير.
كذلك، فإن "محمد علي" أوكل تدريب جيشه إلى عدد من الضباط المشاركين في الحملة الفرنسية على مصر، بدعوى أنهم على دراية بأحوال وادي النيل. وتولى معارفه الفرنسيون إعادة إنشاء معمل البارود الذي أسسه من قبلُ كيميائيو الحملة الفرنسية، كما أسس بإشرافهم ترسانة للأسلحة بالقلعة. وفي حروبه في "نجد" استعان "محمد علي" بالضابط الفرنسي "فاسيير".
وفي الحملة التي قادها ابنه "إبراهيم باشا" وأسفرت عن وقوع الشام تحت حكمه من 1831 إلى 1840م، كان الفرنسيون يشجعون الموارنة ويمدّونهم بالسلاح ليقفوا مع الباشا، وأعلن الموارنة، وغيرهم من طوائف المسيحيين في الشام، استعدادهم التام لمناصرته، فرد الباشا التحية بأحسن منها، لدرجة أن أهل الشام أطلقوا عليه "باشا النصارى"، وهو الاسم نفسه الذي أطلقه المصريون على والده "محمد علي"!
وفي عام 1834م، فتح إبراهيم باشا الطريق أمام اليسوعيين لدخول الشام، كما توسعت الإرساليات الأميركية البروتستانتية في العمل، ونقلت مطبعة الإرسالية الأميركية من مالطة إلى بيروت، لتضع قدمها للمرة الأولى في بلاد العرب، كما أسس فيها المبشر "إيلي سميث" وزوجته مدرسة للبنات، وزود عدداً من الأديرة بالمطابع، لتصبح صناعة الطباعة والنشر -ولعدة سنوات- حكراً على الطوائف المسيحية الوافدة.
واتساقاً مع هذه القاعدة، قام "إبراهيم باشا" بجلب الفرنسي "كلوت بك" من مصر ليشرف على التعليم في الشام، وزوده بمطبعة لنشر الكتب العربية.
وتخبرنا الوثائق الباقية من ذلك العهد بما هو أخطر، ومنها رسالتان متبادلتان بين إبراهيم وأبيه محمد علي؛ الأولى تتضمن فتوى لشيخ الإسلام في إسطنبول بتعطيل الحج في عام 1247 هـ-1832م بعد إعلان محمد علي خارجاً عن الإسلام، ولأن مكة والمدينة، وبوقوعهما تحت حكمه، أصبحتا تحت سيطرة حاكم غير مسلم، يجب أن يتفرغ الناس لمحاربته وإنقاذ المقدسات من يده.
والوثيقة الثانية رسالة من إبراهيم باشا إلى أبيه، يخبره فيها بأن "علي باشا" والي الشام من قِبل العثمانيين، و"أدهم أفندي" أمين الصرة قد كتبا محضراً وقَّعه علماء الشام، يؤيدان فيه قرار قاضي الشام بعدم جواز ذهاب الحجاج إلى الكعبة؛ بسبب مخالفة محمد علي باشا "للرضا السامي، والتحدي والخيانة الصادرين من ابنه الخبيث إبراهيم باشا". وبالفعل، فقد تعطلت قافلة حجاج الشام في عام 1247هـ-1832م.
وثمة وثيقة أخرى هي الأخطر، تتضمن أمراً من إبراهيم باشا حاكم الشام إلى متسلم صفد، بالموافقة على التماس تقدَّم به 200 من اليهود الروس للإقامة في صفد (بفلسطين). ويزعم الباشا أن "المنطقة التي يرغبون في الإقامة بها خالية من السكان"، مردداً فِرية الصهيونية عن فلسطين وأنها "أرض بلا شعب" وعن الصهاينة أنهم "شعب بلا أرض".
وقد صدر الأمر بتاريخ الأحد 13 من المحرم 1251هـ (10 من مايو/أيار 1835م)، الذي يمكن اعتباره يوم السماح بإقامة المستوطنة الصهيونية الأولى، ما يعني أن بداية "تسرب" فلسطين من بين أيدينا لا ترجع إلى مايو 1948؛ بل إلى مايو آخر، قبل هذا الذي نعرفه بـ113 سنة. وقبل هذا التاريخ بـ20 يوماً تقريباً، وافق إبراهيم باشا لليهود على ترميم معبدهم القديم في جوبر، مصدّقاً على زعمهم أن عمره أكثر من 2000 عام!
وثمة موقف يلقي الضوء على نظرة محمد علي للإسلام، وللأديان عموماً؛ إذ اتفق في سنة 1825م أن النيل شحَّ، وأخذت مياهه في الهبوط منذ شهر أغسطس (الذي يفترض أنه شهر الفيضان) فأمر محمد علي بإقامة صلاة الاستسقاء (وهي شعيرة إسلامية)، لكنه دعا إليها أحبار جميع الأديان والمذاهب، وحين سُئل عن دعوة اليهود والمسيحيين للمشاركة في شعيرة إسلامية، رد قائلاً: "إنها تكون مصيبة كبرى إن لم يوجد بين جميع هذه الأديان دين جيد واحد"!
وهو رد لا يمكن أن يصدر عمن "يؤمن" بأي من هذه الأديان، يذكرنا بموقف قائد الانقلاب العسكري بمصر "عبد الفتاح السيسي" في 29 من يونيو 2016 في أثناء احتفال وزارة الأوقاف بليلة القدر، الذي استغله -كالعادة- لتقريع الأزهر وعلمائه واعتبارهم -في الحد الأدنى- مقصِّرين في "مواجهة التطرف"، حيث قال إنه قرأ وبحث 5 سنوات لتجديد اختياره للدين الذي يعتقده!
ظل بلا دين مستقر 5 سنوات! وهناك تصريح آخر للسيسي في 9 من فبراير 2017 في أثناء إحدى حلقات ما يسميه "الندوة التثقيفية للجيش"، قال فيه إن "الجيش المصري ليس لديه أي انتماءات سياسية ولا دينية، وإن ولاءه للدولة فقط".
ولن أرد بالتساؤل عن هوية هذه الدولة التي يواليها الجيش، والتي يفترض أنها إسلامية، وهو ما ينسحب على كل مؤسساتها ومنها الجيش، كما لن أذكركم بأن العدو الاستراتيجي المفترض لهذا الجيش هو "الجيش الصهيوني" الذي يعلن تمسكه بـ"أرض إسرائيل" حسب القراءة التلمودية للتوراة.
ولكن أذكركم بخبر نشرته صحيفة "هآرتس" الصهيونية بعد هذا التصريح بـ10 أيام فقط، عن لقاء سري تم -قبل سنة من تاريخ نشر الخبر- في مدينة العقبة بالأردن، بين السيسي وبنيامين نتنياهو وعبد الله بن الحسين وجون كيري، وأن السيسي الذي نفى وجود هوية -أي هوية- للجيش ولأي من مؤسسات الدولة قائلاً: "لن نسمح بتوجهات داخل الجيش المصري، ومن له توجهات ليس له مكان داخل الجيش"، مؤكداً أن "القيادة السياسية لن تسمح بوجود أي توجه داخل مؤسسات الدولة المختلفة حفاظاً على وطنيتها"، هو نفسه السيسي الذي قالت هآرتس إنه قدم لنتنياهو مبادرة تتضمن الموافقة على إعلانه "يهودية الدولة"، أي يهودية الكيان الصهيوني؛ بل وكان يمثل الوسيط الأقرب لنتنياهو في المفاوضات مع كيري!
الجنرال الأول "محمد علي" منح -عبر ابنه إبراهيم- للصهاينة مستوطنتهم الأولى في 1835م، والسيسي أقرَّ لهم بيهودية دولتهم مقابل سلخ مصر عن هويتها في 2017م، هذا هو حصاد "حكم العسكر" في 182 سنة، من "باشا النصارى" محمد علي، إلى "جنرال اليهود" عبد الفتاح السيسي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق